من مواليد: 1927.01.06م بقرية بلعيان من بلدية أقبو (بجاية)، تعلم بالمدرسة القرآنية فحفظ القرآن الكريم بها والتحق بالمدرسة الابتدائية وبمدرسة التربية والتعليم التابعة لجمعية العلماء المسلمين بقلعة آيت عباس.
انتقل إلى تونس سنة 1946م (جامع الزيتونة) فتحصل على شهادة ألأهلية، ثم التحق بكلية الآداب بجامعة القاهرة وتحصل منها على هادة الليسانس في الفلسفة. عند اندلاع الثورة الجزائرية اختارته جبهة التحرير الوطني متنقلا بين سويسرا وألمانيا وبعض الدول الأسكندنافية إلى غاية الاستقلال. وبعد ذلك وفي سنة 1963م عين مديرا سياسيا بوزارة الشؤون الخارجية، شغل سنة 1967م منصب مستشار سياسي ودبلوماسي لدى رئاسة الجمهورية، في سنة 1970م عين وزيرا للتعليم الأصلي والشؤون الدينية إلى غاية سنة 1979م، كما تقلد عدة مناصب نظرا لكفاءته الفكرية والسياسية منها: عضو في اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني ومستشار الإعلام لدى رئاسة الجمهورية، رئيس المجلس الأعلى للغة العربية، عضو مراسل بالمجمع العلمي السوري للغة العربية بدمشق.
ألفا كتبا في الفكر والسياسة والتاريخ منها: إنية وأصالة، بعض مآثر أول نوفمبر، شخصية الجزائر الدولية وهيبتها العالمية قبل 1830م
رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة اليوم الأحد 27/03/05 كلمة خلال الملتقى الوطني حول شخصية مولود قاسم نايت بلقاسم
فيما يلي نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين
أصحاب المعالي والسعادة
حضرات الأساتذة الأفاضل
أيها الضيوف الكرام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تعتز الأمم بعظمائها من العلماء والمفكرين والسياسيين وتفتخر بهم وبما تركوه من بصمات في عصرهم سواء بأعمالهم أو بسيرهم وتقيم لهم الاحتفالات لتبقى ذكراهم خالدة في الأذهان فتتأسى الأجيال بمناقبهم وبما سجلوه لوطنهم وثقافتهم.
لأنهم هم الذين رفعوا راية الحضارة فيها وأسمعوا كلمتها وجعلوا لها مكانة عالية بين الأمم بل إن الأمم تقاس درجة حيويتها ورقيها بمدى اهتمامها ببناة حضارتها فهم الذين يكتنزون عبقرية الأمة ويترجمونها في أعمال خالدة حتى أن بعض سلوكهم في الحياة هي محصلة لروح الأمة وتجسيد لما تكون عليه القدوة والمثال.
والأمم التي هزل تاريخها هي تلك التي ضربت عن ذكر مفكريها وعلمائها صفحا ورمتهم حيث رمتهم الأيام التي لا تبقي إلا على كل عزيز قوي وما العزة إلا بالعلم وما القوة إلا بالمآثر التي خلدها العلماء والمفكرون.
وإذا خلد التاريخ رجال السيف وسجل فتوحاتهم فلأن وراءهم أصحاب فكر يسندونهم فالسيف ليس سوى وسيلة لتحقيق الهدف ولولا ذلك لما ترك السيف غير دماء وخراب.
وإننا إذ نحتفل بمفكرينا ليس من أجل ما قدموه في حياتهم من خدمات جليلة وبما تحلوا به من صفات حميدة فحسب ولكن للبرهنة على مدى إدراكنا لمهمتهم النبيلة في ترقية شعوبهم وللتأكيد على متابعة مسيرتهم ولإبداء قدر اهتمامنا بتنمية وطننا وتطوير مجتمعنا ولنقيم المعادلة بين الإنسان ووطنه فإذا كانت الأوطان تنبت الرجال فهي لا تورق ولا تزهر وتزدهر إلا بهم.
وللجزائر رجالات كثر خليق بنا أن لا نقف في احتفائنا بهم ذاكرين ومذكرين فحسب بل علينا أن ننكب على أثرهم نتأمل ونتفرس وننقب ونستلهم لنحظى بما نحن في أمس الحاجة إليه.
ومن الذين تركوا بصمة من فكرهم في تاريخ الجزائر السياسي والثقافي الصديق والرفيق والمناضل والعالم الموسوعي مولود قاسم نايت بلقاسم جلببه رب العزة بنعم رحمته وأفاض عليه من غدق ما سقى به عباده المتقين.
فقد ولد ثائرا إذ بدأ نضاله منذ كان تلميذا في المدرسة بقريته المطلة على مشارف آقبو قريته الهادئة المنقطعة لتقاليدها الجزائرية الصرفة التي تقدس العلم والعلماء وتجوع فيها الأسر من أجل أن ينهل أبناؤها من ينابيع المعرفة.
استوعب مولود ثقافة الكتاب بما آتاه الله من حافظة لا تعادلها قوة غير ذاكرته وبطموح يفل الراسيات فتعلم القرآن الكريم الذي بترتيله تحل العقدة من اللسان وقرأ مبادئ الفقة فأحاط بكل ما كان يدرس في المدارس والزوايا وكعادة أبناء عصره وملته يمم وجهه نحو صروح العلم في تونس والقاهرة لينهل العلوم على كبار شيوخها وفحول المعرفة فيها أيام النهضة العربية هناك: وما إن أجيز من قسم الفلسفة بشهادة ليسانس بجامعة القاهرة حتى أبحر نحو باريس والتحق بجامعة السربون لتنفتح له آفاق جديدة على علوم ومعارف أوسع ويستفيد من مناهج الدراسة العصرية ومن الجدل الفكري الجاد بين المدارس المختلفة في أوروبا خاصة المدارس الفلسفية الألمانية ذات الاتجاه العقلاني وتعمق في فلسفة فخته وهيجل وكانط وغيرهم.
ازداد تعلقه بما كتبه هؤلاء عن الأمة الألمانية وعن أمجادها السالفة وعن ضرورة نهضتها المستقبلية وقد كتب فصولا ضافية عن فيخته كان يود أن يتقدم بها كأطروحة لنيل الدكتوراه ولكن يبدو أن اندلاع ثورة التحرير الوطنية والتي التحق بها مبكرا والمناصب التي تقلدها والمهمات التي قام بها قد حالت دون ذلك.
فقد عين ممثلا لجبهة التحرير الوطني ثم للحكومة الجزائرية المؤقتة في معظم العواصم الأوروبية التي كان بها من قبل كالسويد وألمانيا وغيرهما واندمج في مجتمعاتها دارسا للعديد من لغاتها استوعب ثقافتها وفنونها وتأثر بما شاهد فيها من جد وكد وتقدير للعمل والإنتاج الفكري المادي.
وقد جمعتنا رسالة بناء الجزائر المستقلة في العديد من المناسبات فكان موظفا ساميا بوزارة الخارجية وإطارا برئاسة الجمهورية ثم وزيرا للشؤون الدينية والأوقاف لمدة طويلة حقق خلالها إنجازات أفادت المنظومة التربوية والثقافية عامة.
وكان في مقدمتها الملتقيات الإسلامية التي كانت تعقد سنويا ومجلة الأصالة وما أدخله من إصلاحات على الإدارة وإنشاء المعاهد الإسلامية في المدن الكبرى وكان رحمه الله يشرف على كل صغيرة وكبيرة فيما هو مسؤول عنه بدقة وصرامة أسلوبه المعهود مما أعطى لتلك الإنجازات طابعا جديا متميزا.
وعكف على جمع ونشر محتويات تلك الملتقيات العالمية في كتب هي اليوم واحدة من أهم مصادر التفكير و المراجع في العديد من القضايا التي تعنى بالإسلام كفكر وحضارة وفقه وعبادة وما إلى ذلك من الأبعاد الكثيرة في ديننا الحنيف وحرص على ترجمتها إلى الفرنسية فاستفاد منها الجمهور الواسع من المثقفين والطلبة.
واعتنت مجلة الأصالة بهذا الفكر في كافة جوانبه وأوصلته عبر صفحاتها إلى جل شرائح القراء.
وأصبح لملتقيات الفكر الإسلامي بعد دولي يشد إليه العلماء الرجال من كل القارات.
كما اعتنى مولود قاسم برسالة المسجد وبدوره الحضاري والتربوي والديني والتوجيهي في المجتمع ورفع من مستوى ما كان يقال في خطبة الجمعة بهدف نشر الثقافة الإسلامية بوصفها أداة تنموية ووسيلة لتجنيد المجتمع من أجل أن يتفقه في دينه والرفع من قيمه ومثله وإشاعة السلم والخير والتحلي بالتسامح والتكافل بين الناس وليس منبرا للتزمت والتطرف والترويج للفرقة وزرع البغضاء والشنآن وتأليب الناس بعضهم على بعض وتحريف القول واستغلال الدين لتحقيق مطامع دنيوية ومطامح سياسية وأغراض ما أنزل الله بها من سلطان وكلف الأئمة بمحو الأمية واشتغل بتكوينهم وتحسين وضعيتهم الإدارية بناء على شهادتهم العلمية وسعى إلى ترسيم معلمي القرآن بعدما كانوا مهملين وأصبح لهم راتب ونظم للجميع دورات تربص في فترات محددة وأنشأ لهم مراكز تكوين في مختلف المناطق.
واهتمت الوزارة أيضا في عهد الأستاذ مولود قاسم بالمخطوطات المتعلقة بتاريخنا فسهر شخصيا على نشرها منها: "الثغر الجماني في ابتسام الثغر الوهراني" لمحمد بن سحنون الراشدي "ودليل الحيران وأنيس السهران" لمحمد بن يوسف الزياني وقام بتحقيقها المرحوم الحاج المهدي البوعبدلي. وألف بعض الكتب منها:
- إنية وأصالة
- أصالية أم انفصالية
- شخصية الجزائر الدولية وهيبتها العالمية
- مآثر فاتح نوفمبر وردود الأفعال الدولية في الداخل والخارج...
وله عدد من المقالات في مجلة الأصالة وغيرها. وبصفة عامة كان المرحوم بمتاز بثقافة موسوعية وبمطالعة مستمرة وكانت له مكتبة خاصة تعج بالكتب قديمها وحديثها.
لقد تبلورت أفكاره في مؤلفاته وتصريحاته التي تميزت بالجمع بين الأصالة والمعاصرة وكان يرى استحالة الفصل بينهما حيث دعا إلى (أن يكون الإنسان ابن عصره مع البقاء على أديم مصره دون أن يصبح نسخة غيره).
وكان يقصد بالأصالة التعلق بالعقيدة والقيم الرفعية والحضارة التي اكتسبناها من التراث والتاريخ وحفظت لمجتمعنا شخصيته ومكنته من مقاومة الاستعمار ولا تعني الأصالة في نظره التحجر والركود وإنما تقبل التجدد والتطور ومسايرة العصر الذي نعيش فيه وكان رحمه الله متأثرا بآراء جمال الدين الأفغاني ومدرسة النهضة الحديثة وركز على بعض الآيات الكريمة منها:
"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" [سورة الرعد - الآية 11]
وهي نفس الآية التي كان صديقه الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله يتناولها بالشرح والتحليل في أحاديثه الفرنسية والعربية في بيته يومي السبت والأحد.
ركز على هذه الآية إيمانا منه بأن تذليل المستحيلات وإحداث المعجزات التي تغير مصائر الناس إنما تأتي من عمل رجال شعبنا ونسائه إذا هم عقدوا العزم على تجسيد ما في خبايا صدورهم من طموحات شخصية ووطنية في آن واحد فشمروا على سواعدهم وحزموا أمرهم وتوكلوا على الله.
ولما كان شاهدا على عصره رأى رؤية العين الجهود التي بذلها الألمان لإعادة بناء بلدهم بعد نكبتها في الحرب العالمية الثانية أصبح لا يثق بشىء أكثر مما يثق في العمل الدؤوب الذي لا يعرف الكلل ولا الكسل متصديا لكل الصعاب والتحديات لتذليلها وقهرها قهرا فكان يجزم بأن الشعب الألماني العظيم سبقنا في فهم الرسالة القرآنية وما فيها من عبر للعالمين وطبقها تطبيقا محكما فكان يؤكد بإلحاح على الآية الشريفة: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون".
كما حث رحمه الله على الاجتهاد واتخاذ المبادرة والاعتماد على العقل والتأمل والنقد البناء وكان يرد بشدة على الأخطاء ويحارب الانحرافات والجهل والتعصب ولم يتسامح مع الإهمال والتهاون واعتنى عناية خاصة بالتاريخ الوطني واعتبره العنصر الأساسي في إعداد الشخصية الوطنية وعقد له ملتقيات كثيرة تناولت الثورات التي وقعت في أنحاء القطر في عهد الأمير عبد القادر والمقراني والشيخ بوعمامة إلى ثورة أول نوفمبر المباركة وانشغل أيضا باللغة العربية وأدبها
حيث اعتبرها رمز وجود الأمة وسر وحدتها وإذا ضعفت أو أهملت تحولت الأمة إلى مجرد شتات.
لقد سهر على سلامتها ودعمها بجميع الوسائل وعندما أشرف على مجلسها الأعلى مهد لتأسيس المجمع والجامعة الإسلامية ونجد اليوم مجمع اللغة العربية ومجلسها الأعلى بالعاصمة وجامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة ولم يهمل اللغات الأجنبية بل حرص على الدعوة إلى تعلمها لأنها تفتح لنا نوافذ على العالم وتساعد على الحوار بين الثقافات والحضارات.
يمكن والعلم عند الله تصنيف الفقيد في الذين أشارت إليهم الآية الكريمة في سورة الأحزاب: "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا: [الآية 22].
إن المرحوم مولود قاسم نايت بلقاسم كان رجل مبادئ ومواقف صريحة. تحلى بخصائل نادرا ما تجتمع في إنسان واحد وعرفه الناس من أقارب وأحباء بالصرامة والشجاعة والثقافة والفكر والوفاء للوطن والأصدقاء.
وله خصائص كثيرة سيذكرها حتما بالتفصيل الدارسون والباحثون في هذا الملتقى.
ذروني الآن أيها الإخوة الكرام وإن كنت أعلم يقينا بأني ما أتيتكم بجديد حول سي مولود في مداخلتي هذه ذروني استدعه إلى مجمعكم الموقر هذا لأذكره بالقليل القليل من أحداث الماضي التي تجول الآن في ذهني وتزدحم فيه وتدفعني إلى التعبير بصراحة عما أكن له شخصيا من مودة وصداقة.
وما دام معنا وإن لم يبد للعيان فإني أستأذنكم في مخاطبته مخاطبة الصديق للصديق وكيف لا أتذكرك أيها العزيز وقد عاشرتك زمنا ليس بالقليل وعرفتك عن كثب منذ استقلال الجزائر كنت تعاشر كل قادة الثورة والشخصيات الجزائرية في داخل السلطة وخارجها الحكام منهم والمعارضين كنت صديقا للجميع مستقلا في رأيك لا تميل إلى معاداة أحد منهم تتحفظ عن رأي هذا أو ذاك دونما إشاحة تنصت إلى الجميع دون تفضيل ولا تتكلم إلا أن تقول قولا فصلا لما كان لك من دراية بالأمور معظم الأمور.
لقد كنت بالرغم من هدوئك الظاهر وابتسامتك التي كانت ترافق دائما نكتك الطريفة ولكني أجزم بأنك كنت شديد التمسك بأفكارك ثابتا في التشبث بمواقفك.
تكسو وجهك مسحة من التأثر العنيف حين تتحاور مع رفاقك وكثيرا ما تتحاور معهم ولكن دون الإساءة إلى أحد تبقى متربعا في كل الحالات على عرش قناعتك لأنك قبل أن تصل إليها كنت تجمع لها كل الحجج والبراهين وتعززها بالمرجع وبالسند والدليل.
أراك ما تزال بمعطفك الأزرق القديم الذي شهد أيامك كلها وشهد عليها حلوها ومرها وكأنه جزء لا يتجزأ من شخصيتك المتواضعة النادرة.
لك أحباب يحبونك ويقدرونك ولك خصوم لا يكرهونك ويحترمونك لما كنت تثير لديهم من تساؤل واستغراب في المكتب كما في البيت كنت دائما محاطا مطوقا بالكتب والمجلات والملفات المختلفة والمنشورات.
لست أدري كيف كنت تجد ضالتك في تلك الغياهب المتراكم فيها العلم طبقا فوق طبق ولكن في جميع الظروف كنت كما عهدتك على موعد دقيق مع ما يطلب منك من إسهام في قضية أو أخرى أما الجرائد العربية والفرنسية والانجليزية والألمانية وحتى السويدية منها كانت كلها تلتقي يوميا في رزمة ثقيلة الحمل بين إبطك الأيسر ومعطفك الأزرق وأنت في طريقك من المكتب إلى البيت ولا أدري أين ولا كيف تجد الطاقة يوميا دون كلل ولا ملل لحمل وتحمل ما في العالم من أحداث وكوارث وما تنقله الصحف من أخبار ثقيلة ومضنية وكأنك تحمل تبعات الدنيا بين الصدر والذراع الأيسر وتنوء بها كما ناء المسيح الذي شبه لهم بصليبه في صبر وتجلد.
كانت نفسك تطمئن إلى شلة صغيرة من الأصدقاء وتستروح برفقتهم انتقل كثير منهم إلى جوارك لا إخالك إلا مستأنسا بمحمد الشريف الساحلي والدكتور عزوز الخالدي ومالك بن نبي ونعم الأنيس هم.
أو تذكر يا مولود يوم كنا في اليمن الشقيق في شطره الجنوبي آنذاك والتقينا بإخوة من حضرموت ونطقوا بلهجة استغربتها أنا واستغربتها أنت بنفسك قائلا: "إني أفهم هؤلاء القوم إني أستوعب كل ما تفوهوا به وأنا في حيرة من أمري لست أدري إن كان فهمي للغتهم يأتي مما آتاني ربي من معرفة للغة العربية أم من معرفة للأمازيغية وأنت تعلم أني أتقنها وأجيدها أو ما زلت تذكر يا مولود يوم كنا في لقويره في الصحراء الغربية المجاورة لنواديبو في موريطانيا الشقيقة والساعة متأخرة ليلا وأنت تبحث عن هوية الصحراويين والغربيين سائلا على حين بغتة ذلك الشيخ الوقور صاحب الدكان أو أنتم من المغرب أم من موريطانيا في أصولكم فأجاب بدون ترو وبأسرع من البرق وكأنما كان ينتظر منك السؤال: لا هذا ولا ذاك نحن من أولاد دليم من الجزيرة العربية. لقد كان ظمؤك يدفعك إلى طرح أسئلة دقتها تسبب أحيانا بعض الإحراج.
أولا تذكر حين كنا في هانوي والجنرال الأسطوري جياب يشرح على الخريطة للوفد الجزائري بإسهاب وإطناب وقائع معركة Dien Bien Phu ثم وقف مترددا وقال بشىء من الخجل وهو يشير إلى تلة معينة: "أيها الإخوة في هذه الربوة لقينا ما لقينا من معاناة من جراء المقاومين آنذاك". ثم سكت وكان في صمته عفة الأسياويين الذين يقدرون الرجال حق قدرهم حتى في حالة الخصومة بل الحرب.
وسألته يا مولود: "لماذا كانت المقاومة شرسة إلى هذا الحد " وليتك لم تسأل ولم يجب إذ التفت إليك جياب البطل وعلى شفتيه ابتسامة وادعة حلوة لا تخلو من أسف وحزن : "لأن الجنود كانوا مغاربة يا صديقي" وكان يريد أن يقول لأن الجنود كانوا جزائريين.
كم من مرة فاجأتنا فيها يا أخي وكم كنا نتعلم من أسئلتك الدقيقة إن ظمأك للمعرفة لا تضاهيه إلا سعة العلم التي لا حدود لها وكنت دائما مهما أرويت عطشك تعلم جيد أن فوق كل ذي علم عليم.
ما زلت أراك يا مولود في اللجنة المركزية للحزب العتيد تزأر من على كرسيك زئيرا منددا بالانحرافات والبدع من حيث أتت وأنى كان مصدرها وكنت تحذرنا وفي تحديراتك ما يشبه الإنذار والوعيد وكم تنبأت يوم ذلك بما كا ن لا بد له أن يحدث وكأنه وحي يوحى إليك أو إلهام من رب العالمين نطق به الضمير المتأجج فتنبأت بمستقبل الوطن بما كان على ربك حتما مقضيا .
إن وطنيتك المتوهجة وحبك للغة العربية وتبحرك فيها قد جعلاك تأنف من تغليف الأطماع والإغراض بستار من تلفيق المعاني وتزييف الكلمات المتعارف عليها والتي تعج بها قواميس اللغة فكنت ترفض تلك الكلمات وتستعمل بدلها الألفاظ الدالة على الواقع كاشفا بذلك الهدف الحقيقي فلم تقبل أبدا بكلمات المحتلين التي حادوا بها عن معانيها ومدلولاتها فلفظة الاستعمار التي حولتها إلى لفظة الاستدمار. وكانت في محلها لأن الاستعمار لم يكن في الواقع إلا استدمارا وقد تبعك في استعمال هذا اللفظ الكثير ممن رفضوا تحريف الكلم عن مواضعه وتحويله عن الواقع المعيش ولعلك كنت على حق بل أنت على حق إذ بلغت بها رسالة للأجيال القادمة.
أيها الصديق العزيز لقد كنت مهتما بك أكثر مما كنت تظن و كنت أتتبع أخبارك من الخلان الأوفياء ممن رافقوك حتى في قريتك النائية وممن درسوا معك في تونس والقاهرة فكثيرا ما كنا نتجاذب أطراف الحديث عنك فيذكرون لي مناقبك هنا وهناك حدثني أحد محبيك وهو من أقرب المقربين إلي عن تمردك ضد الاجنبي وأنت لما تزل طفلا في قريتك وعن دخولك سجن آقبو المرة بعد المرة لمجاهرتك بحبك لوطنك ولتحريض أقرانك على عدم رفع علم المحتل في المدرسة التي كنتم ترغمون على رفعه في أعياده القومية وكيف انتسبت الى الحركة الوطنية وجاهرت بذلك مما جعل السلطات المحتلة تضعك تحت رقابة شديدة في حلك وترحالك لم توضع إلا على كبار الزعماء.
وتلك الحادثة التي جرت لك مع أستاذ التاريخ بالقاهرة حين كنت تشرح له ما صنع الاحتلال في بلادك من مآس وكيف حاول بكل طرق المسح والمسخ والطمس محو هويتها وتاريخها وأخرجت جواز سفرك لتبرهن له على ما تقول فبادرك بقول لم تكن تنتظره من أستاذ تاريخ .. "عندك جواز فرنسي وجنسية فرنسية " يا بختك.
وكيف انتفضت غضبا وانتفخت أوداجك وكدت تضربه بل كدت تأكله أكلا لولا أن صد عنك بسرعة ولم يسكن عنك الغضب سنوات لم توجه فيها كلمة واحدة لذلك الأستاذ الخفيف الظل.
وكم حدثني عن سيرتك التي كانت كلها مسكا وعطرا فلم تله كما يلهو رفقاؤك حين تطغى عليهم فورة الشباب.
مولود أيها الأخ العزيز أو ما تزال من الدنيا في هم مقيم وقد رأيت ماجرى في وطنك الحبيب أو ما تزال الأسئلة الدقيقة المفاجئة تتزاحم على شفتيك أسعيد أنت بما أصبحت عليه بلادك وهي تصلح ذات بينها وتلم شملها وتضم جهود أبنائها منطلقة في تنمية شاملة أخرتها عنها آفة الإرهاب سنوات وسنوات أم تراك استقر بك الحال وهدأ البال وحال بينك وبينها حجاب فانقطعت عن السؤال وعن رد الجواب
رحم الله فقيدنا مولود قاسم وأسكنه فسيح جنانه مع الصديقين من عباده.
وإذ أرحب بالضيوف الكرام وأتمنى لهم إقامة طيبة أسال الله تعالى أن يوفقكم في أعمالكم ويسدد خطاكم لما فيه الخير والفلاح.